كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فله على ألف.
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله على ألف، فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان على بما ادعاه صدقته، صح التعليق. فإذا شهد به عليه فلان كان مقرًا به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع.
وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه، وكان إقرارًا ناجزًا. وهذا ضعيف جدًّا، فإن الكلام بآخره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة، فإن ذلك يغير الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص. والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة.
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار. كقوله تعالى، حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْناَ في مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89].
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له على ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح، وجها واحدًا. وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له على ألف مؤجلة، صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلًا.
وقيل: القول قول خصمه في حلوله، وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لحلوله وهذا ظاهر البطلان، فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقًا، كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئًا.
وكذلك لو قال: له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو أجرة عن دار لم أتسلمها، أو قال: هلك قبل التمكن من قبضه، على أصح الوجهين، لأنه إنما أقر به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا.
وكذا لو قال: كان له على ألف فقصيته، لم يلزمه، لأنه إنما أقر به في الماضى، لا في الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض في نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له على ألف لا تلزمنى. والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه، فلا يقبل منه إلا ببينة. وهذا قول الأئمة الثلاثة.
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب.
وعلى هذا، فإذا قال: له على ألف قضيته إياه. ففيه ثلاث روايات منصوصات.
إحداهن: أنه غير مقر، كما لو قال: كان له على.
والثانية: أنه مقر مدع للقضاء، فلا يقبل منه إلا ببينة.
والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينة. بل يكون مكذبا لها، وعلى هذا إذا قال: كان له على، ولم يزد على هذا فهو مقر.
وخرج أنه غير مقر من نصه، على أنه إذا قال: كان له على وقضيته: أنه غير مقر، وهو تخريج في غاية الصحة، فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته. فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضى، لا عن الحال، فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال، وهو لم يقربه.
والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلومًا، فالحيلة في تخلصه، أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا، فأنا غير مقر به، وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به، كان جوابًا صحيحًا، ولم يكن مقرًا على الإطلاق.
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يجبر على تسليمه إلى المشترى، ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدئ بالتسليم، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وإن كان دينًا أجبر البائع على التسليم، ثم يجبر المشترى على دفع الثمن. فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن كان غائبًا عن البلد فوق مسافة القصر، ثبت للبائع الفسخ. وإن كان دونها، فهل يحجر عليه، أو يثبت للبائع الفسخ؟ على وجهين. وإن كان المشترى معسرًا، فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله. هذا منصوص أحمد، والشافعى.
وللشافعية وجه: أنه تباع السلعة، ويقضى دينه من ثمنها. فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته.
والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو موجب العدل، وإلا ففى تمكين المشترى من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع، فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعامًا أو شرابًا فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه.
وعلى هذا، لو دفع الثمن إلا درهما منه، فله حبس المبيع كله على باقى الثمن، كما نقول في الرهن.
وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن، لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلم بعض الثمن ملك تسليم ما يقابله. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين. وإنما هو وثيقة، فملك حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين. والأول هو الصحيح، لأنه إنما رضى بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن، ولم يرض بإخراجه، ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن.
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم، ثم يحال على تقاضى المشترى.
فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع، ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى. فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى.
وأيضًا. فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبى قبل القبض، فجوازه من البائع أولى.
لأن المشترى يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها مالا يملكه مع الأجنبى، ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبى.
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فتنافى الأمران، حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة. وهذا بخلاف رهنه من أجنبى قبل القبض. فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبى ومضمونا له من البائع، ولا تنافى بين أن يكون مضمونا له من شخص، ومضمونا عليه لغيره. كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر، صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثانى، ومضمونة له من المؤجر الأول. وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشترى بيعها، وهى مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشترى الثانى.
فإن قيل: هذا هو الفرق الذي بنى عليه هذا القول، ولكن يقال: أي محذور في ذلك، وأن يكون مضمونا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك، فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريًا، فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه، ومضمونًا عليه من جهة كونه راهنا، فإذا تلف تلف من ضمانه، حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضمونًا له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأى محذرو في ذلك؟
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمن ضمان من يكون؟ فالبائع يقول للمشترى: يتلف من ضمانك، لأنه رهن. والمشترى يقول: يتلف من ضمانك، لأنه مبيع لم يقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر.
قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع، لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن، لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه، فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه، كما لو حبس من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم، فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن، والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته، فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن.
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرضه للبطلان.
فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، تم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشترى، ولا يسقط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشترى، أو يؤخر فكاك الرهن، كتب كتابًا وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقى منه فهو أمانة في يده.
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط. كتب في الكتاب: أنه قد وكله الآن، ويعلق تصرفه فيه بالبيع بمجيء الوقت فيعلق التصرف، وينجز التوكيل.
فإن خاف أن يعز له الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه.
فالحيلة له: أن يوكل وكالة دورية، عند من يرى ذلك، فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته، وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنى متى عزلته فلا حق لى عنده ولا دعوى، وما ادّعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواى باطلة، والله أعلم.
المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينفق عليها، ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة، والحس والعرف يكذبها، لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه برد الجواب، فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة.
وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «مَنِ اُدَّعى دَعْوًى كَاذِبَةً لِيَتَكثَّرِ بهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلا قِلةً».
وفى الصحيح أيضًا عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «مَنِ اُدّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
فلا يجوز لأحد. حاكم ولا غيره، أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففى سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة.
ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هي التي كانت تنفق على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلها، مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها؟ ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذي كان ينفق عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك. فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك؟ وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل، والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد؟. ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشترى لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدى هو لخدمتها، وشراء حوائجها، فيكون هو العانى الأسير المملوك، وهى المالكة الحاكمة عليه. وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة، والمعاشرة بالمعروف. فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة، وأبعدها من المعروف.
ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل، وتشرب، وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك!!.
فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكن الزوج أحدًا يدخل عليها، وهى في منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: من الذي كان يقوم لك بذلك؟ فمتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك. ومتى تركه كان تاركًا للحق؟ فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذي كنت أطعم نفسى وأكسوها في هذه المدة، كان كذبها معلومًا، ولم يقبل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهى تدعى أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها، وهو ويدعى أنه هو الذي فعل هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل.